وتفيض الأرواح بالتوبة والمغفرة،
تتجه أفواج حجاج بيت الله الحرام في رحلة ليلية مباركة نحو محطة أخرى من محطات الحج العظيم: مزدلفة.
هذه البقعة المقدسة،
ليست مجرد ممر،
بل هي جزء لا يتجزأ من مناسك الحج،
تحمل في طياتها أسرارًا وأعمالًا ضرورية لإتمام حج مبرور.
![]() |
ماذا يفعل الحاج في مزدلفة؟ |
فما الذي يفعله الحاج في مزدلفة بالتحديد؟
وما هي الأهمية الروحية والشرعية لكل خطوة من خطوات هذه الليلة المباركة؟
دعنا نستكشف،
دليلًا شاملًا لـ اعمال الحاج في مزدلفة،
خطوة بخطوة.
بعد عرفة.. التوجه إلى مزدلفة:
سكينة ووقار.
تبدأ أعمال الحاج في مزدلفة،
فور غروب شمس يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة).
فبعد أن أمضى حجاج بيت الله الحرام،
يومهم كله في الدعاء والذكر،
والوقوف على عرفات،
يأتي وقت الإفاضة من عرفة.
يُسن للحاج أن ينفر من عرفة بعد الغروب مباشرة،
وأن يتوجه إلى مزدلفة بسكينة ووقار،
دون تدافع أو عجلة.
- متى تكون الإفاضة؟ تكون الإفاضة بعد تأكد غروب الشمس مباشرة، لا قبل ذلك، اقتداءً بسنة النبي صل الله عليه وسلم.
- كيف تتم الإفاضة؟ يفضل أن تكون الحركة في هدوء وطمأنينة، مع الإكثار من التلبية والذكر والاستغفار. الطريق إلى مزدلفة هو جزء من العبادة، فلا ينبغي إضاعته في اللغو أو الانشغال بما لا يفيد.
عند الوصول إلى مزدلفة،
يجد الحجاج أنفسهم في فضاء واسع،
يُعرف بـ المشعر الحرام،
حيث يجمعهم مكان واحد بعد تفرقهم على عرفات.
هنا تبدأ سلسلة من الأعمال التي لا تقل أهمية عن سابقتها.
صلاة المغرب والعشاء:
جمع تأخير وقصر.
أول عمل يقوم به الحاج فور وصوله إلى مزدلفة هو أداء صلاتي،
المغرب والعشاء جمع تأخير وقصر.
هذه سنة ثابتة عن النبي صل الله عليه وسلم،
وتُعد من خصائص هذا المكان والوقت:
- كيفية الأداء: تُصلى صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم تتبعها صلاة العشاء ركعتين، بأذان واحد وإقامتين.
- لماذا جمع تأخير وقصر؟ لم يصلِ النبي صل الله عليه وسلم المغرب والعشاء في عرفة، بل أخرهما إلى مزدلفة وجمعهما فيها.
- وهذا تسهيل من الله تعالى على الحجاج، ليركزوا على عبادة الوقوف بعرفة دون انقطاع، ثم يجمعوا بين الصلاتين عند وصولهم إلى مزدلفة، وللتخفيف عليهم في رحلة الانتقال.
- الأهمية الروحية: أداء الصلوات في جماعة في هذا المكان المقدس يضيف بعدًا روحيًا عميقًا، حيث يشعر الحاج بوحدة الأمة واجتماعها على طاعة الله.
المبيت بمزدلفة:
واجب روحي وسنة نبوية.
بعد أداء الصلاتين،
يأتي دور المبيت بمزدلفة.
هذا المبيت يُعد من واجبات الحج عند جمهور الفقهاء،
ومن الأركان عند بعضهم،
وتركه يستلزم دمًا (ذبح شاة) لمن لا عذر له.
- وقت المبيت: يبدأ وقت المبيت من بعد صلاة الفجر من يوم النحر إلى طلوع الشمس. والمبيت المطلوب هو أن يقضي الحاج جزءًا من الليل في مزدلفة، ويصح المبيت في أي جزء من مزدلفة، سواء كان في الخلاء أو في مكان مخصص.
- الفوائد الروحية:
- الراحة والتأمل: بعد يوم عرفة المزدحم بالعبادات، يجد الحاج في مزدلفة فرصة للراحة الجسدية والروحية، والتأمل في عظمة رحلته.
- التجرد والخشوع: يبيت ملايين الحجاج في العراء، تحت قبة السماء، متجردين من زينة الدنيا، في مشهد يعمق الإحساس بالتواضع والخشوع لله.
- الاستعداد ليوم النحر: المبيت في مزدلفة هو محطة إعداد واستراحة لليوم التالي، وهو يوم النحر، الذي يشهد العديد من الشعائر الهامة.
جمع الحصى: استعدادًا لرمي الجمرات.
من أهم أعمال الحاج في مزدلفة هو جمع الحصى.
يتم جمع الحصى التي ستُستخدم في رمي الجمرات خلال أيام التشريق.
- عدد الحصى: يُسن للحاج أن يجمع سبع حصيات لرمي جمرة العقبة الكبرى في يوم النحر (يوم عيد الأضحى).
- ويستحب أن يجمع أيضًا حصى الأيام التالية، (أيام التشريق)،
- وهي 21 حصاة لكل يوم، أي 42 حصاة لليومين إذا كان الحاج سيتعجل، أو 63 حصاة إذا أراد البقاء لليوم الثالث عشر.
- حجم الحصى: يُفضل أن تكون الحصى صغيرة، بحجم حبة الفول أو أكبر قليلاً، ويجب ألا تكون كبيرة جدًا أو صغيرة جدًا.
- مكان الجمع: يُفضل جمع الحصى من أي مكان في مزدلفة، خاصةً من حول المشعر الحرام، ولكن يجوز جمعها من أي مكان آخر في الحرم، مثل منى.
- الأهمية الرمزية: جمع الحصى هو استعداد لرمي الشيطان، ويرمز إلى طرد وسوسته والتحرر من أغلاله. إنه يمثل بداية رحلة تطهير النفس من الشرور.
الوقوف عند المشعر الحرام:
ذكر ودعاء حتى الفجر.
في قلب مزدلفة يقع مكان مبارك يُعرف بـ المشعر الحرام،
وهو جبل صغير يُسمى جبل قزح.
يُسن للحاج بعد صلاة الفجر من يوم النحر،
أن يتوجه إلى المشعر الحرام،
أو في أي مكان آخر من مزدلفة.
ويقف عنده مستقبلًا القبلة،
ويكثر من الذكر والدعاء والتكبير والتهليل،
حتى يُسفر (يضيء الفجر جيدًا)
قبل طلوع الشمس.
- الأهمية الروحية: هذا الوقت هو من الأوقات المباركة التي يُستجاب فيها الدعاء، ويُسن للحاج أن يستغل كل لحظة في التضرع إلى الله، طلبًا للمغفرة، والرحمة، وتحقيق الأماني. إنه تتويج لليلة عظيمة من العبادة والتقرب.
- اقتداءً بالنبي: هذه الشعيرة هي سنة النبي في مزدلفة، حيث كان صل الله عليه وسلم يقف عند المشعر الحرام ويدعو ربه.
الاستعداد ليوم النحر:
ليلة التجهيز للأعمال الكبرى.
بعد قضاء الليل في مزدلفة،
وبعد الوقوف والدعاء عند المشعر الحرام حتى الفجر،
يكون الحاج قد استعد لـ يوم النحر،
(يوم عيد الأضحى).
هذا اليوم هو من أعظم أيام الحج،
ويشهد العديد من الشعائر الكبرى:
- النفور إلى منى: بعد الإسفار (قبل طلوع الشمس)، ينفر الحجاج من مزدلفة متوجهين إلى منى، لبدء أعمال يوم النحر.
- رمي جمرة العقبة الكبرى: وهي أولى الجمرات التي يرميها الحاج في هذا اليوم.
- النحر (الذبح): إن كان الحاج قارنًا أو متمتعًا، يقوم بذبح الهدي.
- الحلق أو التقصير: بعد رمي الجمرة والنحر، يقوم الحاج بحلق شعره أو تقصيره، وبهذا يتحلل التحلل الأول.
- طواف الإفاضة والسعي: يتوجه الحاج إلى مكة لأداء طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة (إن لم يكن قد سعى مع طواف القدوم).
أسئلة شائعة حول أعمال الحاج في مزدلفة:
هل يجب أن أجمع كل الحصى من مزدلفة؟
يُسن جمع الحصى لرمي جمرة العقبة الكبرى من مزدلفة،
ويستحب جمع حصى أيام التشريق منها أيضًا.
ولكن يجوز جمعها من أي مكان في الحرم.
ما حكم من نام في مزدلفة ولم يصلِ المغرب والعشاء فيها؟
إذا وصل الحاج إلى مزدلفة وصلى المغرب والعشاء،
ثم نام،
فصلاته صحيحة.
أما إذا لم يصلِها في وقتها بمزدلفة دون عذر،
فقد أخطأ ويجب عليه قضاؤهما.
هل يجوز للحاج أن يغادر مزدلفة قبل الفجر؟
لا يجوز للحاج أن يغادر مزدلفة قبل الفجر من يوم النحر.
يجب المبيت فيها حتى الفجر،
إلا للمرضى والضعفاء والنساء، فقد رخص لهم النبي صل الله عليه وسلم بالانصراف بعد منتصف الليل.
هل هناك دعاء معين يقال في مزدلفة؟
لا يوجد دعاء مخصوص يُلتزم به في مزدلفة غير الذكر العام والدعاء بما تيسر،
وخاصة عند المشعر الحرام،
حيث يُسن الإكثار من التكبير والتهليل والاستغفار.
و ختاماًَ:
إن قضاء الليل في مزدلفة هو أكثر من مجرد محطة عابرة في رحلة الحج؛
إنه ليلة سكينة وهدوء بعد عظم الوقفة في عرفة،
ومحطة إعداد نفسية وروحية لما سيليها من أعمال الحج في يوم النحر.
هنا تتجمع القلوب، وتُحقق الأماني بالدعاء،
وتُجمع الحصى التي سترمى بها وسوسة الشيطان.
إنها ليلة عظيمة تُظهر فيها عبودية العبد لربه،
وحرصه على اتباع سنة نبيه.
فكل عمل يقوم به حجاج بيت الله الحرام في مزدلفة يحمل في طياته أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا،
وهو جزء لا يتجزأ من رحلة الحج المبرور.
فلنتدبر عظمة هذه الليلة،
ولنستشعر الأجواء الروحانية فيها،
علّها تكون ليلة خير وبركة وتمام لحجنا وتقبلًا لدعواتنا.
اترك تعليقك اذا كان لديك اى تساؤل عن الموضوع